معركة صناعة الشرعية في السودان.. حين يغدو الإعلام جبهة قتال
الأربعاء - 10 ديسمبر 2025
حنان عطية
تبدو الساحة الإعلامية العربية وكأنها تقف اليوم أمام مفارقة لافتة؛ إذ ما لبثت نيران الحرب في غزة أن تهدأ، ولو بشكل حذر، حتى جاءت لحظة أعادت توجيه البوصلة نحو السودان، البلد الذي يتعرض لواحدة من أكثر الحروب تعقيدًا ووحشية وعمقًا في تأثيراتها الجيوسياسية على محيطه الإقليمي.
هذه الاستدارة الخاطفة ليست ناتجة فقط عن هدوء صوت القصف في غزة، وإنما نتيجة تطور كبير في ميدان القتال، حيث تتراوح الأحداث بين كرّ وفرّ، وعلوّ وانخفاض، تارة تكون الغلبة للجيش النظامي تحت قيادة البرهان، وأخرى – وهذا ما حدث منذ أيام – تمدد قوات الدعم السريع وسيطرتها على مدينة الفاشر، وما تلا ذلك من سقوط فعلي لإقليم دارفور الواسع، وتقدمهم نحو ولايات كردفان في محاولة لبسط نفوذ يشبه إعلان سلطة أمر واقع في غرب البلاد.
والسؤال الآن: هل يمكن أن يدخل الإعلام كعامل مؤثر في الواقع ويكون قادرًا على إحداث تغيير عميق في البنية السياسية والاجتماعية للسودان؟، وهل يمكنه أن يكون شريكًا في صناعتها، في ظل حالة الفوضى التي تتكشف ملامحها، والتي قد تعيد رسم خريطة السودان، وربما المنطقة كلها، وسط عجز مركز الدولة عن فرض سيادته، وصمت دولي لا يُطمئن، ودعوات حقوقية تتحدث عن جرائم قد تعيد إلى الذهن أكثر الفصول إظلامًا في تاريخ الصراعات الإفريقية.؟.
إطلالة على الواقع
وحتى يمكن أن نقف على قدرة الإعلام في التأثير، نحتاج إطلالة على الواقع نتعرف من خلالها على معطياته، حيث يستيقظ السودان كل يوم على واقع أكثر قسوة، ويخرج مئات الآلاف من بيوتهم، ولا يجدون طعامًا ولا ماءً ولا رعاية طبية ولا حتى طريقًا آمنًا للفرار.
ووفقًا لمنظمة الهجرة الدولية، نزح نحو 90 ألفًا من شمال دارفور خلال أسبوعين فقط، وهو رقم يعكس حجم المأساة التي تتسع مع كل تقدم عسكري. ومع تجاوز عدد النازحين في البلاد حاجز 13 مليون إنسان منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، بما يؤكد أن السودان يشهد أكبر كارثة نزوح في تاريخه الحديث.
وقد كانت سيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر، والتي تُعد آخر معاقل الجيش في دارفور، نقطة تحول حقيقية، ليس فقط لأنها تفتح الطريق أمام الدعم السريع لإعلان إدارتها لمنطقة شاسعة مستقلة فعليًا، ولكن لأنها أسقطت فكرة أن الجيش السوداني قادر على الدفاع عن أطراف البلاد. وقد استثمرت قوات الدعم السريع هذا الإنجاز بسرعة، فدفعت بقوات كبيرة نحو شمال وغرب كردفان، وحاولت التقدم نحو مدن إستراتيجية ترتبط بخطوط الإمداد والطرق المؤدية إلى وسط السودان.
الجيش، من جهته، يحاول التماسك، ويتحدث عن استعادة السيطرة على بلدات مهمة مثل أم سيالة، أو الاقتراب من السيطرة على مدينة بارا، بينما تردّ قوات الدعم السريع بإعلان الحصار على مواقع الجيش، مثل الفرقة 22 في بابنوسة، المدينة شديدة الأهمية لقربها من حقول النفط ومصافيها، مما يجعل الصراع فيها صراعًا على الموارد قبل أن يكون صراعًا على الأرض.
حرب إعلامية متصاعدة
ومع قراءة هذا الواقع المتأزم على الأرض، تتصاعد حرب إعلامية لا تقل ضراوة عن الحرب الميدانية، فبالرغم من قساوة المشاهد الحقيقية التي تؤكد ارتكاب الدعم السريع لمجازر كبيرة في مدينة الفاشر، إلا أن إعلام الدعم السريع استطاع أن يواجه الحقائق بتكنيك إعلامي جديد، حيث نشر صورًا لمقاطع لمجازر منسوبة إلى قواته، لتنتشر هذه الصور والمقاطع بشكل كبير، ثم يتبين أنها مفبركة وغير حقيقية، بما يؤكد الطريقة التي تعامل بها إعلام الدعم السريع، ليس في نفي الصور، ولكن في محاولة إغراق الفضاء الإلكتروني بمزيد من الصور المفبركة، والتي تتكشف عدم صحتها مع الوقت، في محاولة للتشكيك في كافة الصور والمقاطع الحقيقية.
وبذلك نجد الإعلام يدخل هنا ليكون عاملًا مؤثرًا وليس هامشيًا، بل يعكس طبيعة معركة الرواية التي يخوضها الطرفان، ويكشف كيف يمكن للمحتوى الزائف أن يعيد تشكيل مواقف الرأي العام المحلي والدولي. فوجود صور مزيفة – حتى لو كان حجمها محدودًا – يمنح قوات الدعم السريع ورقة قوية لتقويض مصداقية الخصوم، إذ يمكنها الادعاء بأن الحملات الإعلامية ضدها ليست سوى مؤامرة سياسية مدروسة. وهنا تتحول المعلومة إلى أداة حرب، ويصبح الشك سلاحًا، ويغدو من السهل التشكيك في كل التقارير، حتى تلك الموثقة من منظمات دولية ذات مصداقية.
إلا أن الصورة ليست بهذه البساطة؛ فالحرب في دارفور ليست حدثًا صنعتْه الصور، بل مأساة موثقة منذ سنوات طويلة، بشهادات لا تُحصى من ناجين، وتقارير أممية، وصور أقمار صناعية تظهر قرى محروقة بالكامل. وحتى لو تسللت صور مضللة إلى النقاش العام، فإن ذلك لا يلغي الحقيقة الكبرى: أن دارفور تدفع ثمنًا دمويًا باهظًا. ومع ذلك، فإن سهولة التشكيك التي يوفرها هذا التكنيك الإعلامي تمنح "الدعم السريع" متنفسًا مهمًا، وتفتح أمامها بابًا لخطابات الإنكار التي قد تؤثر على قدرة المجتمع الدولي في اتخاذ مواقف حاسمة.
الإعلام وصناعة الشرعية
وفي ظل هذه الفوضى الشاملة، يبدو الإعلام مرة أخرى جزءًا من المعركة، ليس بمعنى نقل الأخبار فقط، بل كأداة لإنتاج الشرعية أو نزعها، لإدانة طرف أو تبرير آخر، لإظهار الجرائم أو التشكيك فيها.
وهنا تتضح خطورة اللحظة، لأن الحقيقة نفسها أصبحت موضوع نزاع، وربما تكون هذه أكبر خسارة في الحرب السودانية؛ أن يصبح الواقع ضبابيًا إلى حدّ يفقد معه الناس القدرة على التمييز بين الجريمة والدعاية، بين الضحية والجلاد، بين ما حدث فعلًا وما رُوّج له.
إن المشهد السوداني اليوم ليس مجرد صراع بين جيش وميليشيا، بل صراع بين مستقبلين محتملين للدولة، يتحرك الإعلام بينهما ليصنع الرواية ويهيئ الأجواء لما يمكن أن تؤول إليه الأمور، لحسم ما إن كان المستقبل يتجه نحو دولة مجزأة، يحكم كل جزء منها فاعل مسلح مختلف، أو مستقبل آخر يستند إلى إعادة بناء الدولة المركزية على أنقاض الحرب. لكن أيًا من هذين المستقبلين لن يتحقق دون ثمن كبير، ودون تدخل فاعلين كُثُر، من الراجح أن يكون الإعلام واحدًا منها، بل ربما يكون العامل الأكثر تأثيرًا بما يحمله من رواية لا تقل عن دور النزاع المسلح.
إن السودان اليوم يقف على حافة مفترق طرق، قد يقوده إلى تقسيم فعلي، أو إلى حرب أطول، أو إلى مسار غير واضح ينتظر فيه الأطراف حتى تتغير موازين القوة. ومع كل يوم يمر، تتسع الفجوة بين ما يمكن إنقاذه وما أصبح خارج القدرة على الإصلاح، وفي كل الأحوال لا بد من استجلاء الدور المطلوب من الكاميرا لتنحاز إلى السودان الموحد، وهو ما يتطلب أن تظل يقِظة حتى لا يتم سحق مزيد من الأبرياء على حين غفلة، في مذابح مقصودة ومدبرة كجزء من مؤامرة إفراغ الوطن من شعبه، إما ميتًا بالقتل أو نازحًا بالفرار من وطن لم يتم حسم أمره بعد!
